اقتطفت هذه القصيدة من ديوان شكيب جهشان " أحبكم لو تعرفون كم؟" (1)،
ذلك لأني رأيت فيها نموذجًا للقصيدة التي تستحق التعمق والدراسة. وسأضرب صفحًا عن سائر القصائد بسبب تراكم في النثرية والمباشرة والتسطيح على كثير من أبياتها (2)، رغم ما ورد من تشبيهات موفقة هنا، وجدة وطرافة هناك.
وهذه القصيدة سأعمد عليها لما فيها من إثارة وتحفيز، حتى أطهو مأكلاً على نارها لعله يجدي المائدة الأدبية بعض الغناء.
ثلث قرن (3)
ثلث قرن
وأنا أعمل ناطورًا على كروم عنب
والعناقيد صبايا
وهدايا وأنا
أحرق الوهج مناديلي
وأضناني السّغب
ثلث قرن
وأنا أعمل حدّاء
وتمضي القافلة
والمُغذون انطلاق
وانعتاق
وأنا
رَمَض الرمل على رجلي
وشلّ الراحلة
ثلث قرن
وأنا أعمل مزمارًا
ولحني رئتي
والتراجيع سكارى
وحيارى
وأنا
وهنت في النفخ أنفاسي
وذابت مهجتي
ثلث قرن
وأنا أعمل قنديلاً
وزيتي نزرُ
والشعاعات غناء
وعطاء
وأنا
أغرف الأضواء من عمري
ويهنا العُمرُ
ثلث قرن
وأنا أعمل مثالاً
وطيني الأضلع
والتماثيل بهار
وبذار
وأنا
تسكن الآهات في صدري
وتهمي الأدمع
ثلث قرن
وأنا أعمل بحّارًا
وريحي نَفَسي
والمجاديف اكتداح
وانشراح
وأنا
تمحي الشطآن من عينيّ
عند الغلسِ
ثلث قرن
مر مثل اللمح عني
ثلث قرن
ثلث قرن
يا ارتحال الطيف
خلف الطيف
كيف؟
يقلب الدهر لنا في ركضهِ ظهرَ المجنّ
قراءة في القصيدة
القصيدة كما نلاحظ كتبها معلم متمرس، سجل مشاعره الفياضة بعد أن أنهى مهمته، وهي بالتالي لها وظيفة اجتماعية إنسانية، فكيف تناول الشاعر معانيه وصاغها؟ وهل كان ثمة وحدة موضوعية نفسية في القصيدة؟
القصيدة مؤلفة من سبع مقطوعات (ستانزات). تبهرك الأولى بكثافتها وزخمها المتكئ على أصالة، فتلمح التراث أو تستشفه منعكسًا في مزيج حي متشابك، فالناطور وكرم العنب والعناقيد التي لا تفنى مستوحاة من بيت المتنبي المأثور- في هجاء كافور-:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيد
لكن المعنى الجديد عند شكيب يركز على أن المعلم هو الناطور النشيط الذي لا يكل ولا يمل، وكرم العنب الذي كان مستغلاً ومنتهكاً عند المتنبي هو المحفوظ المصون عند المعلم. ومن ناحية أولى فرمز "العناقيد" التي لا تفنى، والتي تعني الخيرات يصبح عند المعلم صبايا بالذات، تعبيرًا عن الجمال والأنس والرهافة والحب. وبهذا المعنى يتواصل مع أصداء بيت آخر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمولُ
وشكيب يأخذ من هذا البيت القديم فكرة السّغب الذي أضناه وأوهنه، فأعطانا الاستعارة النفسية، إذ أحرق الوهج مناديله، وكان في بيداء يصارع الظمأ- مع أن الماء/ العناقيد في متناول يديه، ولعل ما يشفع لنا بهذا التصور استعماله (هدايا) و (مناديل) كلمتين من عالم (الصبايا) الذي استهواه.
ومعنى العيس في البيداء ساقه إلى المقطوعة الثانية، فيصف نفسه بأنه حدّاء يحدو للقافلة الماضية في الصحراء تغذّ سيرها بانطلاق وانعتاق، بينما أصابت الرمضاء رجله، فعوّقه الرمل الحار عن مسيرته كما شل حركة الجمال المسافرة.
وفكرة الحداء للقافلة تسوقه للمقطوعة الثالثة، فيصف نفسه بأنه مزمار، ينبثق اللحن من رئتيه، وأصداء اللحن سكارى وحيارى، ولكنه يعترف بأن أنفاسه وهنت في النفخ وذابت مهجته.
وفكرة ذوبان المهجة – وهي كتابة عن شدة العطاء- توصلنا إلى المقطوعة الرابعة، فيصف نفسه قنديلاً، وزيته قليل، بينما ينطلق الغناء والعطاء يقدم له الهناءة والسعادة. وفكرة السعادة في الاستغراق بالكلية والوجدان، رأيناها في قصيدة التمثال- لعلي محمود طه، حيث ينحت الفنان تمثاله من قلبه وروحه "ولا يزال عاكفًا عليه يبدع في تصويره وصقله متخيلاً فيه الحياة ومرحها وجمالها" (4)، يقول علي محمود طه في قصيدته:
جئت ألقي به على قدميك الآن
في لهفة الغريب المشوقِ
....
بيدي هذه جبلتك من قلبي ومن رونق الشباب الأنيق
....
أنا يا أم صانع الأمل الضا
(م) حك في صورة الغد المرموق
وتأتي المقطوعة الخامسة عند شكيب لتصف الراوي بأنه مثّال يستعمل الأضلع البشرية كالطين في صنعته، فتأتي التماثيل متعة وحصادًا، بينما هو تسكن الآهات في صدره، ويبكي تمامًا كالمثّال عند طه:
ضاع عمري، وما بلغت طريقي
وشكا القلب من عذاب وضيق
....
في يديه حطامة الأمل الذا
(م) هب في مَيْعَة الصبا الأنيق
واجمًا أطبق الأسى شفتيه
غير صوتٍ عبر الحياة طليق
وما دامت الآهات والأسى والأنفاس الحارة تسكن صدر المعلم، فإنه يجدها متحركة وفعالة، فيصف نفسه في المقطوعة السادسة بأنه بحار، وأنفاسه هي الريح، ومجدافه الذي يحركه كدح وسعادة، ولكنه سرعان ما يقتحم اللجج، وتمحي المعالم عن عينيه (5).
ومع امّحاء المعالم نصل إلى المقطوعة الأخيرة، حيث يؤكد أن الزمن مَرّ، والطيوف توارت، فيتساءل: كيف انتهى هذا الزمن المتسارع وأدار لنا ظهره معاديًا؟
------------------------------------
ومبنى القصيدة رغم التواشج والتعانق اللذين ألقيت ضوءًا عليهما، فيه نوع من التوزيع والتنويع بتصميم هندسي مكرور. يبدأ الشاعر كل مقطوعة:
"ثلث قرن"
وفي المقطوعات الست الأوائل يكرر في السطر الثاني:
وأنا أعمل...
ثم يتحدث عن بعض ما له علاقة بتشبيهه، مركزًا على ازدواجية صوتية في كل مقطوعة (صبايا وهدايا، انطلاق وانعتاق... الخ)
ثم يعود للتدليل على ذاته المفجوعة:
وأنا...
وهذه العودة إلى السرد الذاتي ضرورة حتمية للتنفيس عن القلق من ضياع مجد واستبطان لنفسية شجية. وهذا الاستبطان تجلّى من خلال الحديث بلغة الفعل الماضي:
"أحرق الوهج مناديلي، رمض الرمل على رجلي، وهنت في النفخ أنفاسي."
أما الأفعال في المقطوعات الثلاث التالية فقد وردت في زمن الحال – في المضارع-:
"أغرف الأضواء، تسكن الآهات في صدري، تمحي الشطآن من عيني".
وهذه الاستعمالات بحد ذاتها تعبير عن الماضي، وقد لجأ الشاعر إلى المضارعة مضطرًا في بحر الرمل الموسيقى، ذلك لأن (الأضواء) و (الآهات) و (الشطآن) وهي جميعها محلاة بلام التعريف تلزمه أن يستعمل المضارع، وإلا فإن الماضي يحتاج إلى تاء التأنيث أو التاء المتحركة وعندها لا بد من خروج عن الوزن.
فالمضارع يدل على الماضي هنا (ويمكننا أيضًا أن نستثني الاستعمال الثاني للدلالة على استمرارية الموقف الأسيان)، وهذه الأزمان المتواترة تتداخل في نسيج القصيدة بشكل حيّ ومُمَوسق.
وينفرد المقطع الأخير بالتركيز على التعبير: "ثلث قرن".
ولولا الوزن –مرة أخرى- لكان ترديده مسموعًا كل مرة بلغة عددية (ثلاث وثلاثين سنة)، ويمكن القارئ من تخيل الصوت وإعادته على مسمعيه ليرى هذا التكثيف وهذه الضغوط المشحونة بالمأساوية. ولا شك أن استعمال الكسر "ثلث" في ثناياه القصيدة أو في عنوانها يبعدنا عن الدلالة الشعبية الزاخرة بالإيحاء والتوصيل.
ويلاحظ القارئ أن تقسيم التفاعيل متساوٍ في جميع المقاطع (عدا الأخيرة) للدلالة على هذا الاعتماد المسبق والتصميم الهادف، وهذا أدى بالشاعر إلى انتقاء ألفاظ قد لا تغني شيئا في الدلالة على حسية الموقف كقوله:
"تمحي الشطآن من عينيّ
عند الغَلَس"
فلماذا الغلس بالذات، والغلس كما نعلم ظلمة آخر الليل؟ وأين لا تمحى / تتبدى ساعتها؟ أتراها تُكَأة للشاعر، وكذلك الحال في قوله:
"رمض الرمل على رجلي
وشلّ الراحلة"
فلماذا تشل الراحلة وهي القوية على السفر، وما دام عمره هنيئًا، وهو يغرف من الأضواء، وما دامت الرحلة انطلاقًا وانعتاقًا؟
غير أننا نجد تبريرًا مقنعًا، وهو كون المعاناة سببًا للنشوة والهناءة، تمامًا كالعشق في مفهوم الشريف الرضي:
أنت النعيم لقبي والعذاب له
فما أمرك في قلبي وأحلاك
والنظام الصارم الذي ألزم الشاعر به نفسه جعله ينهي القصيدة بتعبير مسكوك مطروق:
" يقلب الدهر لنا ظهر المجنّ" - وهذا التعبير بعيد عن وجداننا اليوم مثله مثل "لبس لنا جلد النمر"، إنه يرمي من وراء هذا المعنى أولاً أن الزمن يهرب منا، وقد تناوله بصورة أيسر في شعره من غير ضرورة لافتعال الصورة:
"كيف كانت الساعات تفر من حياتنا
وعلى مدى الطرق تماما
كما يفر الماء من بين أصابع الكف المنبسطة"(6)
ليس في القصيدة غموض مجاني أو "تراكُب" عبارات واستعارات أو ترميز مفكك يطالبك رغمًا عنك أن تبحث عمّا ورائياته. فالشاعر يبوح لنا أوصافه كما يحسها من خلال حماسة روحية واحتراق داخلي، يقدمها لنا خطوة خطوة، يضفي عليها عنصر التخيل ، حتى تكاد تسمع الشاعر في لقطات سينمائية متباينة. وقد كانت القصيدة في مطلعها ومضًا من اللاشعور، لكن التصميم حال دون الاستطراد في وصف الصورة عبر تداعيات تكشف أسرار الشاعر الداخلية وهمومه الفردية، وبالتالي ليتوصل إلى رؤيا شمولية ووجودية فيها غنى روحّي جديّ وعميق.
والآن لنجمع هذه اللقطات السينمائية- رغم محاولتنا الربط بينها- إنها صور: ناطور+ حداء+مزمار+قنديل+مثّال+بحّار - هي طيوف مرتحلة – أربعة أشخاص وشيئان- تصح معًا أن تؤلف لوحة فنية فيها تركيب درامي لا يكتفي بعلاقة واحدة في الصورة، فيها حركة وحياة ولون قاتم يعانق لونًا أخضر يانعًا لا يعيق تلقائيتها إلا السطر الأخير من القصيدة. فلو وقفت القصيدة عند "كيف؟" لكانت النهاية مفتوحة، وقد اهتدى الشاعر إلى هذه الملاحظة في موقف آخر(7).
"أيها العمر
كيف طرت هكذا
...........
كيف؟
كيف؟
-------------------------
وتهمنا، أخيرًا مكانة القصيدة في حركة المجتمع ودفع مسيرته نحو التقدم من منظور الالتزام بما يبعد الإنسان عن الاغتراب والاستلاب، حتى تتضافر العلائق الإنسانية، وقد عرفنا أن الشاعر معلم بكل ما تحمله الكلمة من معاني العطاء والقدسية، تجلت لنا عبر إحساساته عاطفة حية ومستوى فكري وفني في وحدة موضوعية نفسية، وبلغة منتقاة، وتعابير متواصلة تروعنا بقدر ما تدعونا لقراءتها ثانية- وفي هذا حركة القصيدة والشعر.
----------
1. شكيب جهشان- أحبكم لو تعرفون كم – مطبعة الحكيم، الناصرة- 1988.
2. أُنظر مثلاً صارخًا على ذلك قصيدة "أن تكون معلقًا ص173.
3. ترقيم القصيدة ليس في الأصل.
4. ديوان علي محمود طه (المجموعة الكاملة) – دار العودة، بيروت- د.ت ص 313.
5. تحسن الموازنة هنا وقصيدة "عاصفة روح" لإبراهيم ناجي (أُنظر ديوان إبراهيم ناجي ص 317.
6. أحبكم لو تعرفون كم- ص174.
7. ن . م ص174. وفي هذا السياق أحب أن أكتب عن تجربتي مع (كيف) _وليعذني القارئ- فقد كتبت في قصيدة لي بعد إحدى هزائم العرب:
"وأنا نفسي سيف
ضاع الغمد ومادت (كيف)" - (في انتظار القطار ص40)، فهذا الضياع جعلني أتصور لقطة (كيف) تهتز وتتساءل صارخة محتجة، والمخفي أعظم.
ذلك لأني رأيت فيها نموذجًا للقصيدة التي تستحق التعمق والدراسة. وسأضرب صفحًا عن سائر القصائد بسبب تراكم في النثرية والمباشرة والتسطيح على كثير من أبياتها (2)، رغم ما ورد من تشبيهات موفقة هنا، وجدة وطرافة هناك.
وهذه القصيدة سأعمد عليها لما فيها من إثارة وتحفيز، حتى أطهو مأكلاً على نارها لعله يجدي المائدة الأدبية بعض الغناء.
ثلث قرن (3)
ثلث قرن
وأنا أعمل ناطورًا على كروم عنب
والعناقيد صبايا
وهدايا وأنا
أحرق الوهج مناديلي
وأضناني السّغب
ثلث قرن
وأنا أعمل حدّاء
وتمضي القافلة
والمُغذون انطلاق
وانعتاق
وأنا
رَمَض الرمل على رجلي
وشلّ الراحلة
ثلث قرن
وأنا أعمل مزمارًا
ولحني رئتي
والتراجيع سكارى
وحيارى
وأنا
وهنت في النفخ أنفاسي
وذابت مهجتي
ثلث قرن
وأنا أعمل قنديلاً
وزيتي نزرُ
والشعاعات غناء
وعطاء
وأنا
أغرف الأضواء من عمري
ويهنا العُمرُ
ثلث قرن
وأنا أعمل مثالاً
وطيني الأضلع
والتماثيل بهار
وبذار
وأنا
تسكن الآهات في صدري
وتهمي الأدمع
ثلث قرن
وأنا أعمل بحّارًا
وريحي نَفَسي
والمجاديف اكتداح
وانشراح
وأنا
تمحي الشطآن من عينيّ
عند الغلسِ
ثلث قرن
مر مثل اللمح عني
ثلث قرن
ثلث قرن
يا ارتحال الطيف
خلف الطيف
كيف؟
يقلب الدهر لنا في ركضهِ ظهرَ المجنّ
قراءة في القصيدة
القصيدة كما نلاحظ كتبها معلم متمرس، سجل مشاعره الفياضة بعد أن أنهى مهمته، وهي بالتالي لها وظيفة اجتماعية إنسانية، فكيف تناول الشاعر معانيه وصاغها؟ وهل كان ثمة وحدة موضوعية نفسية في القصيدة؟
القصيدة مؤلفة من سبع مقطوعات (ستانزات). تبهرك الأولى بكثافتها وزخمها المتكئ على أصالة، فتلمح التراث أو تستشفه منعكسًا في مزيج حي متشابك، فالناطور وكرم العنب والعناقيد التي لا تفنى مستوحاة من بيت المتنبي المأثور- في هجاء كافور-:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيد
لكن المعنى الجديد عند شكيب يركز على أن المعلم هو الناطور النشيط الذي لا يكل ولا يمل، وكرم العنب الذي كان مستغلاً ومنتهكاً عند المتنبي هو المحفوظ المصون عند المعلم. ومن ناحية أولى فرمز "العناقيد" التي لا تفنى، والتي تعني الخيرات يصبح عند المعلم صبايا بالذات، تعبيرًا عن الجمال والأنس والرهافة والحب. وبهذا المعنى يتواصل مع أصداء بيت آخر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمولُ
وشكيب يأخذ من هذا البيت القديم فكرة السّغب الذي أضناه وأوهنه، فأعطانا الاستعارة النفسية، إذ أحرق الوهج مناديله، وكان في بيداء يصارع الظمأ- مع أن الماء/ العناقيد في متناول يديه، ولعل ما يشفع لنا بهذا التصور استعماله (هدايا) و (مناديل) كلمتين من عالم (الصبايا) الذي استهواه.
ومعنى العيس في البيداء ساقه إلى المقطوعة الثانية، فيصف نفسه بأنه حدّاء يحدو للقافلة الماضية في الصحراء تغذّ سيرها بانطلاق وانعتاق، بينما أصابت الرمضاء رجله، فعوّقه الرمل الحار عن مسيرته كما شل حركة الجمال المسافرة.
وفكرة الحداء للقافلة تسوقه للمقطوعة الثالثة، فيصف نفسه بأنه مزمار، ينبثق اللحن من رئتيه، وأصداء اللحن سكارى وحيارى، ولكنه يعترف بأن أنفاسه وهنت في النفخ وذابت مهجته.
وفكرة ذوبان المهجة – وهي كتابة عن شدة العطاء- توصلنا إلى المقطوعة الرابعة، فيصف نفسه قنديلاً، وزيته قليل، بينما ينطلق الغناء والعطاء يقدم له الهناءة والسعادة. وفكرة السعادة في الاستغراق بالكلية والوجدان، رأيناها في قصيدة التمثال- لعلي محمود طه، حيث ينحت الفنان تمثاله من قلبه وروحه "ولا يزال عاكفًا عليه يبدع في تصويره وصقله متخيلاً فيه الحياة ومرحها وجمالها" (4)، يقول علي محمود طه في قصيدته:
جئت ألقي به على قدميك الآن
في لهفة الغريب المشوقِ
....
بيدي هذه جبلتك من قلبي ومن رونق الشباب الأنيق
....
أنا يا أم صانع الأمل الضا
(م) حك في صورة الغد المرموق
وتأتي المقطوعة الخامسة عند شكيب لتصف الراوي بأنه مثّال يستعمل الأضلع البشرية كالطين في صنعته، فتأتي التماثيل متعة وحصادًا، بينما هو تسكن الآهات في صدره، ويبكي تمامًا كالمثّال عند طه:
ضاع عمري، وما بلغت طريقي
وشكا القلب من عذاب وضيق
....
في يديه حطامة الأمل الذا
(م) هب في مَيْعَة الصبا الأنيق
واجمًا أطبق الأسى شفتيه
غير صوتٍ عبر الحياة طليق
وما دامت الآهات والأسى والأنفاس الحارة تسكن صدر المعلم، فإنه يجدها متحركة وفعالة، فيصف نفسه في المقطوعة السادسة بأنه بحار، وأنفاسه هي الريح، ومجدافه الذي يحركه كدح وسعادة، ولكنه سرعان ما يقتحم اللجج، وتمحي المعالم عن عينيه (5).
ومع امّحاء المعالم نصل إلى المقطوعة الأخيرة، حيث يؤكد أن الزمن مَرّ، والطيوف توارت، فيتساءل: كيف انتهى هذا الزمن المتسارع وأدار لنا ظهره معاديًا؟
------------------------------------
ومبنى القصيدة رغم التواشج والتعانق اللذين ألقيت ضوءًا عليهما، فيه نوع من التوزيع والتنويع بتصميم هندسي مكرور. يبدأ الشاعر كل مقطوعة:
"ثلث قرن"
وفي المقطوعات الست الأوائل يكرر في السطر الثاني:
وأنا أعمل...
ثم يتحدث عن بعض ما له علاقة بتشبيهه، مركزًا على ازدواجية صوتية في كل مقطوعة (صبايا وهدايا، انطلاق وانعتاق... الخ)
ثم يعود للتدليل على ذاته المفجوعة:
وأنا...
وهذه العودة إلى السرد الذاتي ضرورة حتمية للتنفيس عن القلق من ضياع مجد واستبطان لنفسية شجية. وهذا الاستبطان تجلّى من خلال الحديث بلغة الفعل الماضي:
"أحرق الوهج مناديلي، رمض الرمل على رجلي، وهنت في النفخ أنفاسي."
أما الأفعال في المقطوعات الثلاث التالية فقد وردت في زمن الحال – في المضارع-:
"أغرف الأضواء، تسكن الآهات في صدري، تمحي الشطآن من عيني".
وهذه الاستعمالات بحد ذاتها تعبير عن الماضي، وقد لجأ الشاعر إلى المضارعة مضطرًا في بحر الرمل الموسيقى، ذلك لأن (الأضواء) و (الآهات) و (الشطآن) وهي جميعها محلاة بلام التعريف تلزمه أن يستعمل المضارع، وإلا فإن الماضي يحتاج إلى تاء التأنيث أو التاء المتحركة وعندها لا بد من خروج عن الوزن.
فالمضارع يدل على الماضي هنا (ويمكننا أيضًا أن نستثني الاستعمال الثاني للدلالة على استمرارية الموقف الأسيان)، وهذه الأزمان المتواترة تتداخل في نسيج القصيدة بشكل حيّ ومُمَوسق.
وينفرد المقطع الأخير بالتركيز على التعبير: "ثلث قرن".
ولولا الوزن –مرة أخرى- لكان ترديده مسموعًا كل مرة بلغة عددية (ثلاث وثلاثين سنة)، ويمكن القارئ من تخيل الصوت وإعادته على مسمعيه ليرى هذا التكثيف وهذه الضغوط المشحونة بالمأساوية. ولا شك أن استعمال الكسر "ثلث" في ثناياه القصيدة أو في عنوانها يبعدنا عن الدلالة الشعبية الزاخرة بالإيحاء والتوصيل.
ويلاحظ القارئ أن تقسيم التفاعيل متساوٍ في جميع المقاطع (عدا الأخيرة) للدلالة على هذا الاعتماد المسبق والتصميم الهادف، وهذا أدى بالشاعر إلى انتقاء ألفاظ قد لا تغني شيئا في الدلالة على حسية الموقف كقوله:
"تمحي الشطآن من عينيّ
عند الغَلَس"
فلماذا الغلس بالذات، والغلس كما نعلم ظلمة آخر الليل؟ وأين لا تمحى / تتبدى ساعتها؟ أتراها تُكَأة للشاعر، وكذلك الحال في قوله:
"رمض الرمل على رجلي
وشلّ الراحلة"
فلماذا تشل الراحلة وهي القوية على السفر، وما دام عمره هنيئًا، وهو يغرف من الأضواء، وما دامت الرحلة انطلاقًا وانعتاقًا؟
غير أننا نجد تبريرًا مقنعًا، وهو كون المعاناة سببًا للنشوة والهناءة، تمامًا كالعشق في مفهوم الشريف الرضي:
أنت النعيم لقبي والعذاب له
فما أمرك في قلبي وأحلاك
والنظام الصارم الذي ألزم الشاعر به نفسه جعله ينهي القصيدة بتعبير مسكوك مطروق:
" يقلب الدهر لنا ظهر المجنّ" - وهذا التعبير بعيد عن وجداننا اليوم مثله مثل "لبس لنا جلد النمر"، إنه يرمي من وراء هذا المعنى أولاً أن الزمن يهرب منا، وقد تناوله بصورة أيسر في شعره من غير ضرورة لافتعال الصورة:
"كيف كانت الساعات تفر من حياتنا
وعلى مدى الطرق تماما
كما يفر الماء من بين أصابع الكف المنبسطة"(6)
ليس في القصيدة غموض مجاني أو "تراكُب" عبارات واستعارات أو ترميز مفكك يطالبك رغمًا عنك أن تبحث عمّا ورائياته. فالشاعر يبوح لنا أوصافه كما يحسها من خلال حماسة روحية واحتراق داخلي، يقدمها لنا خطوة خطوة، يضفي عليها عنصر التخيل ، حتى تكاد تسمع الشاعر في لقطات سينمائية متباينة. وقد كانت القصيدة في مطلعها ومضًا من اللاشعور، لكن التصميم حال دون الاستطراد في وصف الصورة عبر تداعيات تكشف أسرار الشاعر الداخلية وهمومه الفردية، وبالتالي ليتوصل إلى رؤيا شمولية ووجودية فيها غنى روحّي جديّ وعميق.
والآن لنجمع هذه اللقطات السينمائية- رغم محاولتنا الربط بينها- إنها صور: ناطور+ حداء+مزمار+قنديل+مثّال+بحّار - هي طيوف مرتحلة – أربعة أشخاص وشيئان- تصح معًا أن تؤلف لوحة فنية فيها تركيب درامي لا يكتفي بعلاقة واحدة في الصورة، فيها حركة وحياة ولون قاتم يعانق لونًا أخضر يانعًا لا يعيق تلقائيتها إلا السطر الأخير من القصيدة. فلو وقفت القصيدة عند "كيف؟" لكانت النهاية مفتوحة، وقد اهتدى الشاعر إلى هذه الملاحظة في موقف آخر(7).
"أيها العمر
كيف طرت هكذا
...........
كيف؟
كيف؟
-------------------------
وتهمنا، أخيرًا مكانة القصيدة في حركة المجتمع ودفع مسيرته نحو التقدم من منظور الالتزام بما يبعد الإنسان عن الاغتراب والاستلاب، حتى تتضافر العلائق الإنسانية، وقد عرفنا أن الشاعر معلم بكل ما تحمله الكلمة من معاني العطاء والقدسية، تجلت لنا عبر إحساساته عاطفة حية ومستوى فكري وفني في وحدة موضوعية نفسية، وبلغة منتقاة، وتعابير متواصلة تروعنا بقدر ما تدعونا لقراءتها ثانية- وفي هذا حركة القصيدة والشعر.
----------
1. شكيب جهشان- أحبكم لو تعرفون كم – مطبعة الحكيم، الناصرة- 1988.
2. أُنظر مثلاً صارخًا على ذلك قصيدة "أن تكون معلقًا ص173.
3. ترقيم القصيدة ليس في الأصل.
4. ديوان علي محمود طه (المجموعة الكاملة) – دار العودة، بيروت- د.ت ص 313.
5. تحسن الموازنة هنا وقصيدة "عاصفة روح" لإبراهيم ناجي (أُنظر ديوان إبراهيم ناجي ص 317.
6. أحبكم لو تعرفون كم- ص174.
7. ن . م ص174. وفي هذا السياق أحب أن أكتب عن تجربتي مع (كيف) _وليعذني القارئ- فقد كتبت في قصيدة لي بعد إحدى هزائم العرب:
"وأنا نفسي سيف
ضاع الغمد ومادت (كيف)" - (في انتظار القطار ص40)، فهذا الضياع جعلني أتصور لقطة (كيف) تهتز وتتساءل صارخة محتجة، والمخفي أعظم.